الرئيسية » مقالات » مستويات الدرس اللساني

حول النص

شهد القرن الماضي تحوّلات حاسمة، في طرق النظر ومعالجة الظاهرة اللغوية، غيرَ مستقلة عمّا حدث من تراكم في مجالي الفلسفة والعلوم الإنسانية والمادية. وربما كانت الآفاق التي فُتِحت أمام منهجيات المعالجة والإشكاليات النظرية ذات الصلة باكتساب اللغة ووصفها قدرةً وإنجازاً... من بين المنجزات التي أحدثت ثورة في تصوّر اللغة وما يرتبط بها من إنتاج.

سرعان ما انتقلت "عدوى" هذه التحوّلات إلى مجال كان شبه مستقل، أو هكذا كان يُدرَك، نعني النص. كان هذا المجال شبه "مؤمَّم" من قبل نظريات الأدب ونقده بحكم طبيعة الإنتاج الذي يُعتبَر ميدانَ اختبارهما أو اختصاصهما. غير أن الطمأنينة إلى ما استقرّ وطال أمده من آراء في هذا الباب أصابها رذاذ ما تحقّق في حقل المقاربات المؤسّسة في اللسانيات.

2. كانت بعض نتائج ذلك بروز مصطلحين استحوذا على المناقشات والأسئلة والمقاربات، نعني مصطلحي "الخطاب" و"النص"؛ فأثمر تخصيصهما بالتفكير والمعالجة أسئلة حقيقية هي أقرب إلى التحديات منها إلى ترَف التفكير وتمرين الذهن. بل إن الانكباب عليهما قاد إلى مساءلة مدى فعالية اللسانيات الحديثة، بناء على أن التواصل لا يَتوسّل الكلمات والجمل وإنما النصوص وضروب الخطاب.

ونظراً لما أضحت تخضع له طبيعة التفكير في الظواهر وتأمّلها في العصر الحديث علاوة على ضوابط إنتاج المعرفة العلمية، كان "من اللازم" تكوين فريق عمل ينكبّ على دراسة الوحدة التي اتُّخِذت موضوع بحث وتحليلِها ووصفِها وتقعيدِها. وقد كان لجامعة كونسطانس بألمانيا قصب السبق في هذا المنحى؛ غير أن تنوُّع وحدة البحث وتلوُّنها بجنس الإنتاج الذي تستمد منه تقاليدها وهويتها من ناحية، واستعصاءها على النظر اللساني -بحصر المعنى- من ناحية ثانية عجّلا بأن تتفرّق السّبل بفريق العمل فنحتَ كلٌّ طريقه وارتضاه وِجهةً للبحث والتدقيق.

3. وتأسيساً على هذا ظهرت مصطلحات-أسماء غدَت أعلاماً على توجّهات في البحث واختلاف في المرامي، من قبيل "نحو النص" و "لسانيات النص" و "علم النص" و "تحليل الخطاب" و"اللسانيات النقدية" و"النظرية السميوطيقية للنص"... وفي إثر ذلك تأسست فرق البحث ومجموعاته ومختبراته ووحداته في مختلف الجامعات عبر العالم. ولمّا كان هذا هكذا صار من المستساغ وضع مصطلحات وثيقة الصلة بمفاهيم المقاربات والتصورات التي توجّه خطاها. وما هي إلا أن استفادت الأبحاث مما تحقق في حقول العلوم الإنسانية والمادية وفي مقدمتها الفلسفة والبلاغة وعلم النفس المعرفي والذكاء الاصطناعي وعلوم الأحياء، وما جاورها. وبذلك تفرّعت الإشكاليات وتعدّدت أوجه استثمار ما تحقّق ومساءلته (على الرغم من أن المساءلة العلمية الجادّة تكاد تكون في حكم المعدوم؛ وما أحوج الاختصاصين معاً إلى إبستمولوجيا خاصّةٍ تكشف الثغرات، وتُعمِل النقد في الأطروحات النظرية، وأساليب النظر ومناهج المقاربة).

4. ولا بأس من التذكير بأن المبحثين معاً، لسانيات النص وتحليل الخطاب، انشغلا علاوة على أنواع الخطاب والنصوص بالترجمة من حيث هي ممارسة نصية تارة، ومن حيث هي ممارسة خطابية تارة أخرى. وقد نجم عن هذا الانشغال تجديد أسئلة الترجمة نظراً وممارسةً، ونحتُ توجهات جديدة عنوانها البارز "الترجمة من حيث هي نص" و "الترجمة من حيث هي خطاب".  وإلى جوار هذا اعتنى التحليل النقدي للخطاب بما تنتجه وسائل الإعلام على اختلافها (مكتوبة ومسموعة ومرئية (فضائية ورقمية)...) منقِّباً في خطاب الجماعات والمجموعات سعياً في إماطة اللثام عن الإيديولوجيات والأحكام المسبّقة ورؤى الآخر واستراتيجيات ذلك كله، ودواعيه وخلفياته، ومقاصده وعواقبه.

وعلى هذا النحو يتّضح للمتّبع أن هذين المبحثين لا يفتُر فيهما نشاط البحث وأسئلته حتى غدا من الصعب لَمّ شتات ما تفرّق في الكتب والمجلات المختصّة، والدراسات والأبحاث، من نظريات وآراء لا تزداد إلا صلابةً وتشظياً في الوقت ذاته. أما الظاهرة اللافتة للاهتمام –على غرار ما سبق- فهي: أ) المحاولات التي تبذلها لسانيات النص (مهما اختلفت التسميات) في سبيل اكتساح عدد من أنواع النصوص واستقطاب عدد من الاختصاصات؛ ب) ما يبذله تحليل الخطاب من جهد حثيث للهيمنة وادعاء القدرة على معالجة جميع أنواع الخطاب وقراءتها في مسعى لا يختلف عن طموح لسانيات النص، كما سلف ذكره.

وعلى نحو ما هو معتاد انفتحت الأبحاث المنجزة في العالم العربي على هذه الانشغالات العلمية تأليفاً وترجمةً وتمحيصاً. وهكذا طفقت المؤلّفات والمقالات تتْرى مقتدية بما تقدّم تارةً، مجتهدةً تارة أخرى. وعلى الجملة بات هذا الاختصاص ينحت له طريقاً في مجال المعرفة العربية الحديثة باحثاً عن استقرار محتمل. وبفضل جهود عدد من الباحثين في مختلف الأقطار العربية أضحى اطلاع القارئ والباحث على بعض منتجات الحقلين أمراً متيسّراً.

5. لا يمكن أن ندّعي أو نرغب في أن تكون الجامعة في البلاد العربية بمنأى عمّا يعتمل في واقع المجتمعات العربية؛ ولذا نعتبر انشغال الجامعة بما يجري وانكبابها عليه بالتوثيق والتحليل والتفسير والتأويل جزءاً من دورها، بل هو جزء أساسٌ.

وتأسيساً على ما سبق نقترح على الباحثين سبعة محاور كبرى تكون مدار الدورة الثالثة:

1.      لسانيات النص والترجمة نظريةً وممارسةً

2.      تحليل الخطاب والترجمة نظريةً وممارسةً

3.      حصيلة الترجمة في مبحثي لسانيات النص وتحليل الخطاب: ما الذي تُرجم إلى اللغة العربية وكيف تُرجم (تقويم الأعمال المترجمة وتقييمها)؟

4.      مسألة المفاهيم والمصطلحات في التأليف والترجمة في مبحثي لسانيات النص وتحليل الخطاب (ما المصطلحات الرائجة؟ ما وضعها التداولي؟ ما المبادئ المحكَّمة في اختيار المترجمين أو المؤلفين؟).

5.      الخطابان الإعلامي والسياسي المواكبان أو اللاحقان للانتفاضات في الأقطار العربية (خطب الرؤساء؛ شعارات المتظاهرين ولافتاتهم ورسومهم؛ البرامج الحوارية ذات الصلة؛ تحليلات الصحف العربية والدولية؛ تعليقات الفاعلين في المنظمات العربية والدولية؛ بيانات الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات الحقوقية؛ الخطاب الساخر المواكب (النكات والأشرطة الهزلية...).

6.      تحليل الخطاب–النص (الإبداعي أو الديني أو التاريخي أو الفلسفي   أو التربوي...) قديمه وحديثه بقطع النظر عن جنسه.

حررها الأستاذ محمد خطابي

 

 

الفئة: مستويات الدرس اللساني | أضاف: 1991bitou (04.14.2015)
مشاهده: 385 | الترتيب: 0.0/0
مجموع التعليقات: 0
avatar
أهلاً بك, ضيف!
الخميس, 05.09.2024

اللسانيات النصية